ينطلق صاحب هذا المؤلف في بحثه في ملاحظة حقيقة استقر عليها واقع القضاء في المجالين الداخلي والدولي ألا وهي تزاحم قضاء الدولة مع التحكيم في النهوض بنفس الوظيفة وهي الوظيفة القضائية، وبنفس الأدوات الإجرائية، والتجاذب المستمر بينهما سواء من جهة أخذ قضاء الدولة بالأسلوب التحكيمي القائم على الوفاق …أو بأخذ التحكيم بأدوات قضاء الدولة على المستوى المؤسسي التنظيمي وعلى المستوى الإجرائي الفني بما أصبح يقرب كليهما من صيغة مشتركة للقضاء تحت لواء القانون الإجرائي الأفقي من خلال ما أصبح يصطلح عليه بـ”النزاع النمطي”.
لذلك حق له من خلال بحثه التأصيلي المقارن التساؤل حول مدى صدقية مسلمات العلاقة التقليدية غير المتكافئة بين مؤسستي القضاء والتحكيم، ومدى وجود ولاية لقضاء الدولة على التحكيم. فهو تساؤل مشروع ولا مهرب منه، لأن الجواب عليه سلباً أو إيجاباً هو كما أثبت منهج البحث المدخل لرسم معالم ما يفترض أن تكون عليه العلاقة بين القضاءين. كما حق له تهيب خوض مثل هذه المغامرة غير المأمونة، خصوصاً إزاء ما أصبح ينظر إليه من مسلمات دونية التحكيم والتي استعملت لتبرير ضرب رقابة موسعة لقضاء الدولة عليه.
وهكذا كانت محاولة تثبيت الطبيعة الحقيقية للتحكيم من بين تعدد المذاهب والنظريات الفلسفية والتصرات المختلفة من عقدية إلى قضائية إلى مختلطة إلى ذاتية متفردة، وتحديد الطبيعة الحقيقية للمهمة التخكيمية، ومرجعيتها مقدمة ضرورية، لما قدمه البحث عن طرح إشكالية العلاقة بين القضائين من قراءة جديدة لفكرة العدالة، توفق بين مقتضيات السيادة من جهة، ومقتضيات التحرر، من جهة أخرى، وتضمن لهيكل القضاء، أياً كانت طبيعته، سلطة الحكم تأميناً للشرعية، وسلطان القضاء تأميناً لفاعلية أحكامه، في إطار العلاقات الخاصة الداخلية والدولية على السواء، فتزول الأخطار التي أصبحت تهدد الثقة في القضاءين معاً.
لكن الباحث تجاوز تثبيت الطبيعة القضائية للمهمة التحكيمية واكتمال ولاية المحكم وحجية قضائه إلى إثبات ثم تثبيت التحكيم في علاقته بالعدالة كصيغة مثلى لأداء الوظيفة القضائية، ليس لأنه تحكيم وإنما لكونه يتوقف مع مقدمات العدالة المنشودة ومفترضاتها الجوهرية، ألا وهي البحث على حل للنزاع لدى الأطراف قبل البحث عنه وراء إرادتهم بمعنى استصدار المحكم الحل من إرادة وفاقية للأطراف الذين يحتكمون إليه فيقبلونه بدلاً من طلبهم حلاً من القاضي يفرض عليهم قهرياً.
فكان أن بدأ الباحث برد التصورات السائدة، للعلاقة بين القضاء والتحكيم إلى منطلقاتها النظرية والعملية، قصد محاولة تقييم مدى تلاؤمها مع النتائج التي رتبت عليها، وتبين مواطن ضعفها، ثم انتقل إلى ترتيب ما رآه من نتائج على ما استقر عليه اختبار المسلمات التقليدية وتثبيت بدائلها من جهة الطبيعة الحقيقية للمهمة التحكيمية وللتأهيل التحكيمي. وهو المنهج الذي جعل من هذا العمل بحثاً في علم القانون يستند إلى المنهج القانوني الجدلي ويستعين بالمنهج المقارن وبالعلوم السماعدة ومنها علم التاريخ الذي تجاوز فيه الباحث الاستقرار التسجيلي إلى منهج النظر والاعتبار الخلدوني مستعيناً في مواضع عدة بما يسمى “المنطق الرياضي القانوني”.
ولا شك في أن هذا البحث والمنهج المعتقد فيه قد أسهم في بلورة تصور لصيغة بديلة للعدالة من شأنها أن توفر على المتقاضي والقاضي على السواء أعباء التصادم الإجرائي، سواء بالاستعاضة عن التنازغ الصدامي بالاحتكام الوفاقي أو بالاستعاضة عن التطاحن بين ولايتين بالتزاحم المتكافئ المحمود.
وقد أظهر البحث عبر هذا المنهج أن العلاقة بين القضائين، بقدر ما تستقر في عنصرها الأول، أي سلطة الحكم أو ولاية الشرعية على الاشتراك المتناظر في الوظيفة تحقيقاً لنفس الغاية وبذات الوسائل الإجرائية بما يعطي للمحكم ولاية حكم كاملة موازية لولاية القاضي، في إطار مبادئ القانون الإجرائي الأفقي، بقدر ما يستقر تطورها على مستوى العنصر الثاني، أي نفاذ الحكم وفاعليته، إلى استقلالية مكتسبة وحصانة ذاتية شبه كاملة للتحكيم.
كما بين المؤلف بجلاء في بحثه وبمنهج علمي موثق أن تمتع قضاء الدولة بامتياز سلطانها الممنوح، لم يحل دون إقرار الدولة نفسها بأفضلية التحكيم كأداة للتنازع العلاقات الاقتصادية عموماً، بما له من خصوصية المنهج والسلوك. وهي استقلالية ما فتئت تتعزز على مستوى التأهيل، وعلى مستوى الاختصاص، ما جعل مناط “التحكيمية” يتسع بإطراد إلى حد اكتساح مواد كانت حكراً على قضاء الدولة ومحمية بحصن النظام العام المنيع.
أما من جهة حجية السند التحكيمي ونفاذه وانتقاله عبر حدود الدولة، فقد ثبت البحث حقيقة وحدة الحكم التحكيمي واكتمال ثلاثية القوة الاحتجاحية والالزامية والتنفيذية فيه، وانحسار الرقابة التنفيذية على السند التحكيمي الأجنبي من رقابة دنيا شكلية إلى “رقابة مقبولة حيادية” تأميناً لمقتضيات النظام العام في مفهومه الضيف وبحده الأدنى، الذي أصبح التحكيم تفسه يساهم في رسمه وتأمينه معاً بما له من سلطان السيادة الدولية، وأن الرقابة الذاتية من داخل مؤسسة التحكيم، ما فتئت تتعزز حتى ضيقت من مجال ومظاهر تدخل قضاء الدولة، وجعلته، زيادة على طابعه العارض، وغير الإقصائي، إما تدخلاً مساعداً أو تدخلاً سانداً للتحكيم، بل إن هذه الفاعلية الذاتية للتحكيم وصلت حد تحييد أثر تدخل القضاء على القوة التنفيذية للحكم التحكيمي، حتى في حالة التصريح ببطلانه في بلد المنشئ، ما جعل استقلالية التحكيم شبه مطلقة وتستند إلى ذاتية التحكيم نفسها وليس إلى عامل خارجي.









